مِنْ وَحْيِ خَيَالِ جَدَّتِي
فِي لَيْلَةٍ مُمْطِرَةٍ شَدِيدَةِ اَلْبُرُودَةِ يَمْلَؤُهَا اَلْخَوْفُ اَلشَّدِيدُ مِنْ صَوْتِ اَلرَّعْدِ وَالْبَرْقِ، جَلَستُ أَنَا أَتَرَقَّبُ صَوْتَ دَقَّاتِ قَلْبِي مَعَ كُلِّ مَرَّةٍ يَعْلُو فِيهَا صَوْتُ اَلرَّعْدِ وَيَعْقُبُهُ صَوْتُ اَلْبَرْقِ . . وَفِي تِلْكَ اَللَّحْظَةِ تَذَكَّرتُ أُمِّي عِنْدَمَا كُنْتُ صَغِيرَةً كَانَتْ تُرَدّدُ لي أَذْكَاراً وَتَقْرَأُ لِي اَلْقُرْآنَ لِكَيْ أُهَدأَ وَأَنَامَ. أَيْنَ ذَهَبَتْ هَذِهِ اَلْأَيَّام ؟ لِمَاذَا تَغَرَّبتُ عَنْهَا وَعَنْ دِفِءِ بَيْتِنَا ؟ أَحِنُّ دَائِمًا لِأَيَّامِ طُفُولَتِي كُنْتَ لَا أَخْشَى شَيئاً كَانَ اَلْأَمَانُ يُحاوطُنِى مِنْ جَمِيعِ مَنْ حَوْلِي أَبِي وَأُمِّي جَدَّتِي .
وَأَخِي اَلْأَصْغَرُ عِنْدَمَا يُرِيدُ أَنْ يَنَامَ يَأْتِي إِلَى مُسْرِعًا لِكَيْ أَضُمَّهُ وَأَسْردُ عَلَيْهِ بَعْضاً مِنْ اَلْقَصَصِ اَلَّتِي لَطَالَمَا أَرْوِيهَا لَهُ مِنْ وَقْتِ نُعُومَةِ أَظَافِرِهِ . . كُنْتُ أَتَخَيَّلُ نَفْسِي وَأَنَا طِفْلَةٌ مَعَهُ وَأَتَذَكَّرُ جَدَّتِي لَأَبى . . كَانَتْ حَرِيصَةً يَوْمِيًّا أَنْ تَجْعَلَنِي أمددُ عَلَى اَلْأَرْضِ وَأَضَعُ رَأْسِي عَلَى رِجْلَيْهَا وَتَقُومُ بِالْمَسْحِ عَلَى رَأْسِي وَهِيَ تَرْوِي لِي قِصَصاً وَكُنْتُ أسْتَمعُ إِلَيْهَا وَأُرَكِّز فِي تَفَاصِيلِ مَا تَرْوِي وَأحْفَظُ مَاتَقُولُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ وَفِي اَلصَّبَاحِ أَقُومُ بِسَرْدِهَا عَلَيْهَا وَأفْعَلُ كَمَا تَفْعَلُ لِي وَلَكِن كُنْتُ أَجْلِسُ خَلْفهَا وَأُحضرُ فُرْشَاةَ اَلشَّعْرِ اَلْخَاصَّةِ بِهَا وَأَقُومُ بِتَمْشِيطِ شَعْرِهَا وَأَتَقَمَّصُ طَرِيقَةَ كَلَامِهَا مَعِي حَتَّى عِنْدَمَا تَقُومُ بِتَغَييرِ صَوْتِهَا لِكَيْ تَتَكَلَّمَ بِصَوْتِ طِفْل أَوْ رَجُل مُسِن أَوْ اِمْرَأَةٍ شِرِّيرَةٍ أَوْ رَجُل شِرِّير فِي رُوايَاتِهَا . . أَفْعَلُ مَا تَفْعَلُهُ لِي . . وَمَعَ اِنْتِهَاءِ اَلْقِصَّةِ وَتَمْشِيطِ شَعْرِهَا . . تَقُومُ جَدَّتِي بَتَقبِيلِى بَيْنَ عَيْنَيَّ وَتَدْعُو لِي أَنْ أَظَلَّ كَمَا أَنَا صَاحِبَةَ اَلْقَلْبِ اَلْحَنُونِ كَمَا أَطْلَقَتْ علي وَألا أَتَغَيَّرَ مَعَ مُرُورِ اَلسِّنِينَ وَتَقُوم بِإِعْطَائِي قَلِيلاً مِنْ اَلْحَلْوَى وَتَقُولُ لِي رَبِّنَا يجْعَل لِسَانك حلْو زي مَا بِتَاكْلِى حلْو . . بكْرَة تكبرِي وَهَتْكُونِى أَكْبَر مُؤَلفة . . تَذَكَّرتُ تِلْكَ اَلْأَحَاسِيس وَالْمَشَاعِر وَالْكَلِمَاتِ اَلصَّادِقَة الَّتِي كَانَتْ دَائِمًا تُرَددهَا عَلَى مَسَامِعِي . . وَكُنْتُ مَازلتُ صَغِيرَةً لَا أَعِي مَا مَعْنَى هَذَا اَلْكَلَام . . كَانَ أَبِي يَقُولُ لِي: أَنْت مِثْل جَدَّتِك تشْبهِى رُوحَهَا وَمَلَامِحَ وَجّهِهَا أَكْثَر مِنى . فَتَرُدُّ عَلَيْهِ أُمِّي ضَاحِكَةً . . مِنْ وَقْتِ وِلَادَةِ اِبْنَتَك وَأَنْتَ ترَدّدُ دَائِمًا هَذَا اَلْكَلَام حَتَّى عِنْد وِلَادَةِ أَخِي قَالَ لِي . لَا أَحَدَ سَيَأْتِي مِنْ بَعْدِك يُشْبِهُ جَدَّتَك غَيْرك . . كَانَ شَدِيدَ اَلتَّعَلُّقِ بِأُمِّهِ وَبَارّاً بِهَا لَأُبْعِدِ اَلْحُدُود فَلَقَدْ مَاتَ جَدِّي وَأَبِي فِي سِنٍّ صَغِيرة وَهِيَ مِنْ قَامَتْ بِتَرْبِيَتِهِ وَتَعْلِيمِهِ زرعَتْ فِيهِ مَعْنَى اَلْحُبِ وَالْوَفَاءِ وَالْإِخْلَاصِ لِعَائِلَتِهِ وَأَبْنَائِهِ حَتَّى عِنْدَمَا تَزَوَّجَ . . تَزَوَّجَ اِبْنَةَ أُخْتِهَا وَهِيَ منْ قَامَتْ بِتَرْبِيَتِهَا نَظَرًا لِسَفَرِ أُخْتِهَا لِلْخَارِجِ مَعَ زَوْجِهَا وَتَرَكَتْهَا مَعَهَا وَكَانَتْ تَعُودُ فِي كُلِّ عَام لِمُدَّةِ شَهْرٍ هِيَ وَزَوْجُهَا . . وَظَلَّتْ أُمِّي وَأَبِي فِي كَنَفِ جَدَّتِي . . حَتَّى قَرَّرَتْ جَدَّتِي تَزْوِيجَ أَبِي مِنْ أُمِّي خَوْفًا مِنْ أَنْ تَعُودَ خَالَةُ أَبَى وَتَأْخُذهَا بَعِيدًا عَنْهَا وَقَدْ تَعَوَّدَتْ عَلَى اَلْحَيَاةِ مَعَهَا . فِي اَلْبِدَايَةِ لَمْ يُوَافِقُوا عَلَى هَذَا اَلزَّوَاجِ وَعَانَدَتْ خَالَةُ أَبَى كَثِيرًا وَلَكِنْ سُرْعَانَ مَا تَرَاجَعَتْ فِي قَرَارِهَا وَتَمَّ اَلزَّوَاجُ، أُمِّي مِثْل أَبِي، جَدَّتِي منْ قَامَتْ بِتَرْبِيَتِهَا وَكَأَنَّ اَلْقَدَرَ كَتَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَعِيشَ بِدُونِ أَبٍ وَأُمٍّ مَعَ أَنَّهُمَا عَلَى قَيْدِ اَلْحَيَاةِ وَلَكِنَّ جَدَّتِي لَمْ تُشْعِرْهَا يَوْمًا بِهَذَا، اَلَّتِي لَطَالَمَا كَانَتْ تَبْكِي بِسَبَبِهِ كَانَتْ تَشْتَاقُ لَهُمَا كَثِيرًا . . وَلَكِنْ كَانَتْ جَدَّتِي ترْوي عَلَيْهَا بَعْضاً مِنْ قِصَصِهَا لِكَيْ تَنَامَ وَتهَدأ . .
مَرَّتْ عليَ هَذِهِ اَلذِّكْرَيَاتُ . . أَرَدْتُ أَنَّ أُطمئِنَ نَفْسِي قَلِيلاً لِكَيْ أَنْسَى صَوْتَ اَلرَّعْدِ وَالْبَرْقِ . . وَدَقَائِق مَعْدُودَة وَرَنَّ هَاتِفِي فَازْددتُ خَوْفًا مِنْ رَنِينِهِ . . وَلَكِنْ عِنْدَمَا رَأَيْتُ أَنَّ أُمِّي هِيَ منْ تَتَّصِلُ بِي . تَنَهَّدتُ وَحَمدتُ اَللَّهَ كَثِيرًا . . ظَلْنَنَا نَتَحَدَّثُ طِيلَةَ اَللَّيْلِ . وَعِنْدَ شُرُوقِ اَلشَّمْسِ قَالَتْ لِي اَلْآنِ تَسْتَطِيعِي أَنَّ تَنَامِي دُونَ خَوْفٍ . . . اِتَّفَقْنَا أَنَا وَأبِيكِ لِكَيْ نَأْتِيَ إِلَيْكِ فِي نِهَايَةِ اَلْأُسْبُوعِ فَقَدْ اِشْتَقْنَا لَكِ، فَرِحْتُ جِدًّا فَأَنَا لَمْ أَرَاهُمْ مُنْذُ عِدَّةِ شُهُورٍ . . وَمُنْذُ وَفَاةِ جَدَّتِي لَمْ أَسْتَطعْ أَنْ أَتَوَاجَدَ فِي اَلْمَنْزِلِ وَدَخَلتُ فِي اِكْتِئَابٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَكَانَ رَأْيُ اَلْأَطِبَّاءِ أَنْ أبتَعدَ عَنْ اَلْمَنْزِلِ لِكَيْ تَتَحَسَّنَ حَالَتِي . . فَاضْطُررتُ أَنْ أُسَافِرَ إِلَى مَنْزِلِ جَدَّتِي وَجَدِي مِنْ أُمِّي . . فِي مَدِينَةٍ أُخْرَى غَيْر مَدِينَتِنَا أَصرَتْ جَدَّتِي أَنْ آتىَ إِلَيْهَا بَعْد وَفَاةِ أُخْتِهَا وَأمْكُثُ فِي مَنْزِلِهَا اَلَّذي أَسَّسَتْهُ هِيَ وَجَدّي بَعِيدًا عَنْ أَيِّ مَدِينَة بِهَا ضَوْضَاءُ، فَقَدْ اِعْتَادَتْ عَلَى اَلْعَيْشِ فِي أَمَاكِنَ هَادِئَةٍ وَتُرِيدُ عِنْدَمَا تَعُودُ مَرَّةً أخرَى أَنْ تَعِيشَ كَمَا كَانَتْ دَائِمًا . . سَافَرَتْ جَدَّتِي هِيَ وَجدِّي وَتَرَكَتْ لِي اَلْمَنْزِلَ أَعِيشُ فِيهِ بِمُفْرَدِي . . تَذَكَّرتُ وَقْتَهَا كَلِمَاتِ جَدَّتِي لِي "عِنْدَمَا تَكْبُرِينَ سَتَكُونِينَ أَكْبَرَ مُؤَلّفِة" . . عِنْدَهَا أَحْضَرتُ قَلَمِي وَدَفْتَرِي وَبَدَأَتُ بِسَرْدِ أَوَّلِ قِصَّةٍ قَامَتْ جَدَّتِي بِسَرْدِهَا لي، أَتَذَكَّرُهَا بِصَوْتِهَا وَكَأَنَّهَا تَرْوِيهَا لِي وَبِالْفِعْلِ قُمْتُ بِتَأْلِيفِ أَوَّلِ رِوَايَةٍ لِي وَكَانَتْ مِنْ وَحْيِ خَيَالِ جَدَّتِي وَتَوَالَتْ بعْدَهَا اَلرّواياتُ وَاحِدَةً تِلْوَ اَلْأُخْرَى حَتَّى أَصْبَحَتُ أَشْهرَ مُؤَلّفِة . . وَلَكِنْ مَا زلتُ أَخْشَى صَوْتَ اَلرَّعْدِ وَالْبَرْقِ كَتَبتُ مراراً وَتَكْرَارَاً قِصَصاً وَقْتَ هُطُولِ اَلْأَمْطَارِ وَوَقْتَ خوفِي مِنْ صَوْتِ اَلرَّعْدِ وَالْبَرْقِ . كُنْتُ أَتَذَكَّرُ وَقْتُهَا صَوْتَ جَدَّتِي دَائِمًا ترددُ عِنْدَمَا تَخَافِينَ أَغْمِضِي عِينَيكِ وَتَخَيّلِي وَكَأَنَّكِ فِي مَدِينَةٍ غَيْرِ اَلْمَدِينَةِ قُومِي بِسَدِّ مَسَامِعِكِ عَلَى مَا يُخِيفُكِ وَابدَأى بِتَخَيُّلِ مَا تُحِبِّينَ وَقْتَهَا سَيَأْتِي اَلْإِلْهَامُ وَتتفنَنِى بِكِتَابَةِ مَا رأيتِ فِي مُخَيِّلَتِكِ وَتَتَغَلبى عَلَى خَوْفِكِ بِسَرْدِ أَفْضَلِ اَلْقصَصِ وَالرِّوَايَاتِ.
جَدَّتِي . . مَا عُدتُ خَائِفَةً مِنْ صَوْتِ اَلْبَرْقِ وَالرَّعْدِ كَمَا كُنْتُ . . وَمَا زلتُ أَتَفَنَّنُ وَأَتْقنُ سَرْدَ اَلْقصَصِ وَالرِّوَايَاتِ وَأَصْبَحَ عِنْدِي عَدَدٌ لَا بَأْسَ بِهِ مِنْ اَلْمُؤَلَّفَاتِ . . .
أهْدِي هَذَا اَلنَّجَاحَ لَكِ . .
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليق لتشجعنا على الاستمرار
وشكرا